نحن نجتاز اليوم لاشك محنة سياسية.. أحزاب متوقفة بفعل فاعل لأكثر من ثلاثين سنة.. شباب يعيش حالة ضياع سياسي وثقافي وفكري مقصودا لذاته.. حالة تغييب
وعي.. فكرت وأجهدت النفس كثيرا، بحثا عن صيغة سياسية وسط هذا الضياع، وفقدان الانتماء وغياب القدوة، التي كان يترفل فيها جيلنا، رغم العداء الفكري الظاهر والباطن ورفض كل منا للآخر.. سقطت تجربة الأحزاب الملكية بعد ثورة يوليو 52.. هوت من حالق تجارب هيئة التحرير والاتحاد القومي.. نجت إلي حد ما تجربة الاتحاد الاشتراكي بفضل منظمة الشباب، ومن ثم شيعت الجماهيرتجربة المنابر، وابنها غير الشرعي والذي ولد ميتا 'أحزاب اليمين والوسط واليسار'
هي دي مصر يا عبلة.. العالم من حولنا يتغير كل عشر دقائق، بينما نحن منذ الف واربعمائة سنة دائمو الفجأة بأن شهر رمضان باكر.. اجناس العالم من هندوس وعبدة البقر، بيض وسود وصفر، يعرفون موعد اعيادهم القومية والدينية، معرفتهم لآبائهم واولادهم، اما نحن نظل نجهل ونسأل ونستفسر ونضرب الرمل، لنعرف ان كان غدا رمضان، أو هو المتمم لشهر شعبان.. عشنا اسري لخلافات حكامنا، ودكاكين المذاهب السياسية والزعامية.. اندلعت في مصر ثورتان، غيرتا وجه العالم ونظرته لنا.. قلبتا الموازين السياسية والاقتصادية، اضافتا ابعادا عبقرية جديدة للشخصية المصرية، عبقرية كانت غائبة عن العوالم والظروف، التي عرفتها جيوش الاستعمار، التي احتلتنا لعشرات السنين.. رحلت من فوق اراضينا وهي تجهلنا تماما.. قوات احتلال عسكرية غيرت عادات وتقاليد ولغات قومية، لشعوب استعمروها لمئات السنين.. لم تستطع تلك القوي بجبروتها، وقوتها وصلافتها ان تغير من اللسان المصري، فمازال طفلنا من آلاف السنين ولتلك اللحظة التي نعيشها، حين يشعر بالعطش، يصرخ قائلا 'امبو'.
انتجت الثورتان خريطة لقابل الايام، ذات مراحل ثلاث، اتم الشعب العظيم منها مرحلتين وبقدرة فائقة.. اقتربت ساعات المرحلة الاخيرة، مرحلة تأسيس البرلمان.. غابت دكاكين السياسة ولم تمهد طريقا لانجاح المرحلة الاخيرة.. عشنا ولم نتعود أو نمارس ثقافة ادارة الازمات.. سنعود مرة اخري الي الوراء لنمارس عاداتنا المفضلة المحببة الي نفوسنا الا وهي ان الانتخابات ستأتينا فجأة وغدا.. البرلمان المصري القادم، سيشرع قوانين معيشتنا ونظام اقتصادنا، وحرياتنا بين الاسلام السياسي والرجعية الرأسمالية المستغلة.. شباب الفوضي الخلاقة، ومن يعتصرون علي شفاههم حبات الليمون ومن يقولون' اهه ده اللي قدامنا '.. غابت الخطط عن حياتنا واختلطت السوائل الخفيفة بالزيوت الثقيلة.. حبسنا الفكر في صدورنا ولم نمارسه.. اعجب الكثير وهلل المهللون بالغاء وزارة الاعلام، وتسيد اعلام الفرد.. غابت الثقافة الاعلامية، ضاعت مفاهيم الهوية الثورية، والتي كان الاعلام القومي، هو الذي سيحدد للعالم ويشرح لهم، مفاهيم الثورتين وأسباب قيامهما.
تآمرت أجهزة الثقافة مع اجهزة اعلام الفرد علي رجل الشارع المصري.. حرم ايضا فنون المسرح والسينما والموسيقي.. غابت سطور الكتاب الا من اصدارات الجنس والتكفير.. اغلقت ابواب قصور وبيوت الثقافة، الا في المواسم الدينية.. تحولت هذه المنافذ الثقافية الي حلقات ذكر وتواشيح، وليست تنويرا، انصرف اهل الثقافة واجهزتها الي معارك كلامية وقضايا خلافية بينها وبين الازهر.. نسيت وزارة الثقافة ان الازهر قدم لمصر وللعالم الاسلامي، عقولا من الفكر التقدمي، ومواقف إحماء الثورات السياسية ضد المستعمر.. ساهم الازهر الشريف، بقدر كبير في تماسك اللحمة الوطنية وسداها، قبل ان تعرف مصر أي شيء عن وزارات ثقافة أو غيرها ولم يكن لها تواجد الا من مجهودات فردية لمفكرين اكثرهم صناعة ازهرية.
يسعي البعض اليوم لإحياء شكل منظمة الشباب.. أقول لهم وبالفم الملان مسبقا، إنها تجربة فاشلة لأنها تأتي كمثيلاتها من المنظمات السياسية، التي ولدت وتولد للمرة المائة هي الأخري فوقية وشوهاء.. مصر تحتاج مؤتمرا للشباب، مطعما بالخبرات الثقافية والسياسية، وبعيدا عن التجربة الأبوية المتسلطة، مدعية الزعامة.. دعوا الشباب يختار جلبابه السياسي من أول نوعية القماش.. ويكون هو المصمم والخياط والمقصدار.. أقول تاني.. هو المصمم والخياط والمقصدار.