دراسة تحليلية من كتاب "مآسي الخلافة كنظام للحكم" تحت الطبع لمؤلفه الكاتب المفكر عبد المنعم الخن - (الباب الثاني - الخلافة العباسية - الفصل الثامن.. خلافة المنتصر بن الرشيد - الخليفة العباسي الثامن)
من هو الخليفة العباسي المعتصم بن هارون الرشيد؟..
هو أبو إسحاق محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد بن المهدي بن المنصور ثامن الخلفاء العباسيين، ولد سنة 179 هجرية , أمه أم ولد اسمها ماردة وهو أحد أولاد ستة من أولاد الرشيد ، كل منهم اسمه محمد
سماته وصفاته
كان المعتصم أبيض أصهب اللحيه طويلها، مربوعا مشربا بحمرة، ذا شجاعة وهمة عالية، وقوة مفرطة،(كان يقرأ ويكتب قراءة ضعيفة، وكان مع ذلك فصيحا مهيبا، عالي الهمة، حتى قيل انه كان أهيب الخلفاء العباسيين) , غير أنه كان محدود الثقافة وضعيف في الكتابة, وما ميز عهد المعتصم هو استعانته بالجنود الأتراك وذلك للحد من المنافسة الشديدة بين العرب والفرس في الجيش والحكومة.
قبل توليه الخلافة
كان في عهد أخيه المأمون واليا على الشام ومصر وكان المأمون يميل اليه لشجاعته , فولاه ولاية العهد من بعده.
.توليه الخلافة
قال إبن كثير في كتابة البداية والنهاية: "بويع له بالخلافة يوم مات أخوه المأمون بطرسوس يوم الخميس الثاني عشر من رجب من سنة ثماني عشرة ومائتين، وكان إذ ذاك مريضا، وهو الذي صلى على أخيه المأمون، وقد سعى بعض الأمراء في ولاية العباس بن المأمون , أي أرادوا يولوه الخلافة , فخرج عليهم العباس فقال: ما هذا الخلف البارد؟ أنا قد بايعت عمي المعتصم , فسكن الناس وخمدت الفتنة وركب البرد بالبيعة للمعتصم إلى الآفاق، وبالتعزية بالمأمون"
أعماله
أول عمل قام به هو أن أمر المعتصم بهدم ما كان بناه المأمون في مدينة طوانة، ونقل ما كان حوِّل إليها من السلاح وغيره إلى حصون المسلمين، وأذن الفعلة بالانصراف إلى بلدانهم، ثم ركب المعتصم بالجنود قاصدا بغداد وصحبته العباس بن المأمون، فدخلها يوم السبت مستهل رمضان في أبهة عظيمة وتجمل تام.
إخماد الفتن والثورات الداخلية
وقع في عهد الخليفة المأمون فتنةٌ عظيمةٌ كادت أنْ تودي بالخلافة الإسلامية العباسية، وقادها بابك الخُرَّمي، وكان زعيمَ فرقةٍ ضالةٍ، تُؤمن بالحلول وتناسخ الأرواح، وتدعو إلى الإباحية الجنسية. وبدأت تلك الفتنة تُطِلُّ برأسها في أذربيجان، ثمَّ اتسع نطاقها لتشمل همدان وأصبهان، وبلاد الأكراد وجرحان، وحاول المأمون أنْ يقضي عليها؛ فأرسل الحملات تَتْرى؛ لقمع تلك الفتنة، لكنه تُوفي دون أن يُحقق نجاحًا، وانتقلت مهمة القضاء على هذه الفتنة إلى الخليفة المعتصم بالله الذي أعانة الله فأخمدها، وأسر قائدها وقتله.
ثم قامت ثورة أخرى بقيادة محمد بن القاسم وهو شيعي على المذهب الزيدي، إذ كان مقيما بالكوفة ثم خرج منها إلى الطالقان بخراسان يدعوا إلى الرضا، فاجتمع اليه أناس كثر, فاهتم لأمره عبد الله بن طاهر بن الحسين أمير خراسان وبعث له جيوشا وقامت بين الفريقين وقعات بناحية الطالقان انتهت بهزيمة محمد بن القاسم وفراره إلى كور خراسان في مدينة نسا غير أن واليها أمسك به وبعثه إلى المعتصم فقام الخليفة بحبسه غير أنه تمكن من الفرار من السجن بمساعدة مجموعة من أنصاره، ولم يعرف عنه أي خبر بعد ذلك.
الروم في بلاد الإسلام:
وكان من نتائج هذه الفتنة أنِ اتَّصل قادتها -وعلى رأسهم بابك- بإمبراطور الروم يستحثُّونه، ويطلبون منه مهاجمة الخلافة الإسلامية العباسية التي انشغلت بقتالهم، وكان مما قالوه له: إنَّ المعتصم لم يُبْقِ على بابه أحدٌ، فإنْ أردت الخروج إليه فليس في وجهك أحدٌ يمنعك , فاستجاب ملك الروم "توفيل ميخائيل" لاستغاثة بابك، وجهَّز جيشًا يزيد قُوامه على مائة ألف جندي، وسار به إلى بلاد الإسلام، فهاجم المدن والقرى يقتل ويأسر ويمثِّل، وكانت مدينة ملطيَّة من المدن التي خرَّبها الملك توفيل، حيث قتل الكثير من أهلها، وأسر نساءها المسلمات، حتى إنَّ عددهن بلغ ألف امرأة، وكان يمثِّل بالمسلمين فيقطع آذانهم وأُنوفهم، ويَسْمِلُ أعينهم.
وكان من بين الأسيرات امرأة هاشمية تُدعى "شراة العلوية"، استغاثت بالخليفة المعتصم في أسرها، ونقل ذلك إليه؛ فلبى استغاثتها , كما أنَّ المسلمين جميعًا في سائر الأمصار ضجُّوا واستغاثوا في المساجد والديار، ودخل إبراهيم بن المهدي على المعتصم، فانشده -قائمًا- قصيدةً طويلة يذكر فيها ما نزل بالمسلمين، ويحضُّه على الانتصار، ويحثُّه على الجهاد، ومنها:
يا غارة الله قد عاينت فانتهكـي *** هتك النساء وما فيهن يرتكـب
هبَّ الرجال على أجرامها قُتلت *** ما بال أطفالها بالذبـح تنتهـب
.فخرج المعتصم من فوره نافرًا، عليه درَّاعةٌ من صوفٍ بيضاء، وقد تعمَّم بعمامة الغزاة، وعسكر غربي دجلة، وأرسل طائفة من الأمراء ومعهم جيش كبير إعانة عاجلة للمسلمين، وساروا إلى تلك الديار؛ فوجدوا الروم قد انسحبوا، حينئذ عادوا للمعتصم .
المعتصم يقصد عمورية:
ولم يكن خليفة المسلمين ليسكت على ما حلَّ بالمسلمين، وكيف يسكت وأصوات الاستغاثات ما زالت تتردَّد أصداؤها في أذنيه، وأسرى المسلمين مع الروم؛ ولذا جمع الأمراء وسألهم: أيُّ بلاد الروم أمنع وأحصن؟ قالوا: عمُّوريَّة، لم يعرض لها أحدٌ من المسلمين منذ كان الإسلام، وهي عندهم أشرف من عاصمتهم القسطنطينية (بيزنطة). فقال: هي هدفنا.
.وبدأ الخليفة يستعدُّ، فاستدعى الجيوش وتجهَّز جهازًا قيل: إنَّه لم يتجهَّز قبله بمثله، ولا غرو في ذلك؛ فالهدف عظيم، وقد أراد الله أن يجعلها حاسمة لا تقوم للروم بعدها قائمة، بل إنَّ أهدافه تعدَّت مجرَّد الأخذ بالثأر وتأديب الروم إلى فتح بلادهم كلها وضمِّها للمسلمين.
خرج المعتصم إلى عمُّوريَّة في (جمادى الأولى 223هـ/ إبريل 838م)، ولم تكن من عادة الحملات الكبرى الخروج في ذلك الوقت، غير أنَّ الخليفة كان متلهِّفًا للقاء، ورفض قبول توقيت المنجِّمين الذين تنبَّئوا بفشل الحملة إذا خرجت في هذا التوقيت.
وسار المعتصم في جحافل أمثال الجبال، وبعث الأمراء إلى مناطق الثغور، ووصل إلى قُرب طرطوس، وعند (سروج) قَسَّمَ المعتصم جيشه الجرَّار إلى فرقتين؛ الأولى بقيادة الأفشين، ووجهتها أنقرة، وسار هو بالفرقة الثانية، وبعث "أشناس" بقسم منها إلى أنقرة، ولكن من طريقٍ آخر، وسار هو في إثره، على أن يلتقي الجميع عند أنقرة.
معركة دزمون:
علم المعتصم من عيونه المنتشرين في المنطقة أنَّ إمبراطور الروم قد كمن شهرًا لملاقاة الجيش الإسلامي على غرَّة، وأنَّه ذهب لمفاجأة الأفشين، وحاول الخليفة أنْ يُحَذِّرَ قائده، لكنه لم يستطع، واصطدم الأفشين بقوات الإمبراطور عند "دزمون"، وألحق الأفشين بإمبراطور الروم هزيمة مدوِّية في (25 من شعبان 223هـ/ 838م)، ولم يَحُلْ دون النصر الضباب الكثيف الذي أحاط بأرض المعركة أو المطر الغزير الذي انهمر دون انقطاع، وهرب الإمبراطور إلى القسطنطينية، وبقي قسم من جيشه في عمُّوريَّة بقيادة خاله "مناطس" حاكم "أناتوليا".
دخلت جيوش المعتصم أنقرة التي كانت قد أُخليت بعد هزيمة الإمبراطور، ثم توجَّهت جيوش المعتصم إلى عمورية فأتتها بعد عشرة أيام، وضربت عليها حصارًا شديدًا.
حصار عمورية:
بدأ الحصار في (6 رمضان 223هـ/ 1 أغسطس 838م)، وكانت عمورية مدينة عظيمة جدًّا، ذات سور منيع وأبراج عالية كبار كثيرة، وقد تحصَّن أهلها تحصُّنًا شديدًا، وملئوا أبراجها بالرجال والسلاح، ولكنَّ ذلك لم يَفُتَّ في عضد المسلمين , في الوقت نفسه بعث إمبراطور الروم برسوله يطلب الصلح، ويعتذر عمَّا فعله جيشه بمدينة ملطية، وتعهَّد بأن يبنيها ويردَّ ما أخذه منها، ويُفرج عن أسرى المسلمين الذين عنده، لكنَّ الخليفة رفض الصلح، ولم يأذن للرسول بالعودة حتى أنجز فتح عمورية.
ابتدأت المناوشات بتبادل قذف الحجارة ورمي السهام، فقُتل كثيرون، وكان يمكن أنْ يستمرَّ هذا الحصار مدة طويلة، لولا أنَّ أسيرًا عربيًّا قد أسره الروم دلَّ الخليفة المعتصم على جانبٍ ضعيفٍ في السور، فأمر المعتصم بتكثيف الهجوم عليه حتى انهار، وانهارت معه قوى المدافعين عنه بعد أن يئسوا من المقاومة.
دخول عمورية:
فتح المسلمون عمورية ودخل المعتصم وجنده مدينة عمورية في (17 رمضان 223هـ/ 12 أغسطس 838م)، وتكاثر المسلمون في المدينة وهم يكبرون ويهلِّلون، وتفرَّقت الروم عن أماكنها، فجعل المسلمون يقتلونهم في كل مكان، ولم يبقَ في المدينة موضعٌ محصَّنٌ سوى المكان الذي يجلس فيه نائبها مناطس، وهو حصن منيع، فركب المعتصم فرسه، وجاء حتى وقف بحذاء الحصن، فناداه المنادي: ويحك يا مناطس! هذا أمير المؤمنين واقف تجاهك. فقالوا: ليس بمناطس ههنا مرتين. فرجع الخليفة ونصب السلالم على الحصن، وطلعت الرسل إليه، وقالوا له: ويحك! انزل على حكم أمير المسلمين. فتمنَّع، ثم نزل متقلدًا سيفه، فوضع السيف في عنقه، ثمَّ جيء به حتى أُوقف بين يدي المعتصم، فضربه بالسوط على رأسه، ثمَّ أمر به يمشي إلى مضرب الخليفة مهانًا , ثم انصرف المعتصم راجعا إلى ناحية طرسوس في آخر شوال من هذه السنة , وكانت إقامته على عمورية خمسة وعشرين يوما.
وهكذا فتح المسلمون مدينة عمورية، وأخذوا منها أموالاً كثيرة، وأسروا أعددًا من الروم افتُدِيَ بها أسرى المسلمين , وكان من أهداف المعتصم أنْ يستمرَّ في الجهاد حتى يفتح عاصمة الروم القسطنطينية، لكن هذا المشروع لم يُقيَّضْ له أن يُنفَّذْ، بعد أن اكتشف المعتصم مؤامرةً للتخلُّص منه دَبَّرها ابن أخيه العباس مع القائد عجيف بن عنبسه الذي سبق أن قضى على ثورة الزط مما اضطر المعتصم لأن ينهي الحرب مع الروم ويقبض على العباس وعجيف فحبسهما ومنع عنهما الماء إلى أن ماتا، كما أنَّ فتح القسطنطينية يحتاج إلى قوى بحرية كبيرة لم يكن يملكها ساعتها؛ فتوقَّف المشروع إلى حين.
وخلَّد المؤرخون اسم هذا الخليفة المسلم؛ لِما قام به من نجدة المسلمين والدفاع عنهم، كما خلَّده الشعراء، وعلى رأسهم أبو تمام حبيب بن أوس الذي وصف سيف المعتصم بالقصيدة التي مطلعها:
السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
يطلق على المعتصم بلله الخليفة المثمن لأن الرقم 8 لعب دوراً هاماً في حياته، فهو ثامن الخلفاء العباسيين، ودامت خلافته ثماني سنوات،وثمانية شهور، وشهد عهده ثماني فتوحات عسكرية، وترك من الأولاد 8 أولاد، 8 بنات، وكانت ولادته عام 108هـ في الشهر الثامن من السنة (شعبان) وتوفي وله من العمر 48 سنة.
وفاة المعتصم
احتجم ( من الحجامة أي ليخرجَ منه الدَّمُ الزَّائدُ الفاسد) المعتصم في أول يوم من محرم سنة 227 هجرية فأصيب عقب ذلك بعلته التي قضت عليه يوم الخميس 8 من شهر ربيع الأول من تلك السنة ورثاه محمد بن عبد الملك الزيات.
ويقول السيوطي أنه لما احتضر جعل يقول :« ذهبت الحيلة فليس لي حيلة » , « اللهم إنك تعلم أني أخافك من قبلي ولا أخافك من قبلك. وأرجوك من قبلك ولا أرجوك من قبلي »
كانت خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام، وهو ثامن الخلفاء من بنى العباس، وثامن أولاد هارون الرشيد، ومات عن ثمانية بنين وثماني بنات، وتولى الخلافة سنة ثمان عشرة ومئتين، وفتح ثمانية فتوح وتوفي وهو ابن ثمانية واربعين عاما فكان يلقب ب"المثمن" ، وكان معروفا بطيبة النفس ، وكان من أعظم الخلفاء وأكثرهم هيبة ,.وإثر وفاته بويع بالخلافة لإبنه الواثق بالله.
المراجع
البداية والنهاية لإبن كثير
السيوطي - تاريخ الخلفاء - ص 553 و 554
النجوم الزاهره لأبي المحاسن، ج2،ص305
المعتصم العباسي - الأعلام، خير الدين الزركلي، 1980
ثورة بابك الخرمي، الموسوعة العربية
الدولة العباسية، تكامل البناء الحضاري، عيسى الحسن