فى حديث صحيح مرفوع إلى النبى أنه لما نزلت على المسلمين فى المدينة آية «الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ» الأنعام 82, شق ذلك على المسلمين لأنهم اعتقدوا أن أى ظلم ولو كان بسيطا يختلط بإيمانهم قد يذهب به كله, فانطلقوا للنبى يسألونه الهدى فى فهم هذه الآية فأجابهم النبى وفى إجابته أسس لأمته من بعده مدخلا وسبيلا واضحا ومنضبطا بهدى النبوة للتعامل مع تفسير الآيات الحكيمة, فقال لهم: «لَيْسَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ أَلَمْ تَسْمَعُواْ مَا قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ» «يَا بُنيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ».
وهذا التفسير من النبى أسس لأهم ثلاث قواعد ذهبية لفهم القرآن فهما مؤصلا ومنضبطا:
القاعدة الأولى: أنه لا يجب فهم القرآن من خلال المعنى اللغوى للفظ فقط, بل من خلال مأتاه ومكانه داخل السياق النصى ليستدل به على المعنى المراد من الآية والدليل هو قول النبى فى الحديث: «لَيْسَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ», والمعنى أن سياق الآية كان يتكلم عن كمال الإيمان فى قول الله: «الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ» فلما جاء الكلام عن الظلم فى ذات السياق استبان أن المعنى ليس المراد به الظلم المجرد, بل المراد هو الظلم الذى يناقض الإيمان الكامل فكان المفهوم أنه الشرك.
القاعدة الثانية: أن القرآن له وحدة موضوعية وهو كل لا يتجزأ, لذا فإن تفسير نصوصه ببعضها البعض هى السبيل القويمة لفهمه السديد, والدليل هو تفسير النبى لمعنى الظلم فى آية: «يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ» من خلال آية: «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ», التى بينت معنى الظلم المراد, وهذا تأكيد على وحدة البناء فى آيات القرآن.
القاعدة الثالثة: ألا يرجع فى تفسير المستشكل من الآيات إلا لحديث صحيح ومرفوع إلى النبى والدليل على ذلك ما فعله الصحابة من سؤالهم النبي, فلما كان السماع من فم النبى لمن بعده من المستحيلات فكان الواجب البحث عن أصح الصحيح عن النبى لتفسير القرآن.
ولكن مع ظهور عصر المفسرين ذهبت هذه القواعد النبوية كهشيم تذروه الرياح, فضموا بين دفتى كتبهم المكورة كل ما يخالف هذه القواعد ففسروا القرآن وكأنه جزر مجزأة لا علاقة موضوعية ولا وحدة بنائية تجمعه, ففسروه بالأثر والروايات الموضوعة والضعيفة والمرسلة, ثم بالرأى والعرف والهوى والخرافات والإسرائيليات والسلطوية الذكورية والاستعلائية الطبقية وأحكام القبيلة, فأحاطوا النص الأرقى فى تاريخ الإنسانية بشروح وحواش بائسة لا تستلهم روح النص ومقاصده بل لا تكاد ترقى ثمنا لأن تساوى المداد الذى كتبت به.
وكمدخل لمحاولة فهم النص القرآنى من خلال تطبيق القواعد النبوية الثلاث نعرض لما اقترفه المفسرون الأوائل فى فهم وتفسير الآية الشهيرة لنشوز المرأة «فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ» النساء 34.
وقد مثل فهم هذه الآية وذكر «الضرب» فيها إشكالية عند المعاصرين وانقسمت آراؤهم فيها إلى فريقين, الأول مثله العلامة التونسى «الطاهر بن عاشور» ويتلخص فى تفعيل قاعدة «تقييد النص بالعرف السائد» فقال فى تفسيره: «فإنّ الناس متفاوتون فى ذلك، وأهل البدو منهم لا يعُدّون ضرب المرأة اعتداء، ولا تعدّه النساء أيضاً اعتداء» التحرير (5/41), وهذا الاتجاه وإن كان محمودا للشيخ ولكنى أرى أنه منقوص لأن التقيد بالعرف يشترط فيه ألا يكون العرف سيئا فى حد ذاته, وقد جاء الإسلام ليقوم الاعوجاج لا ليقره, أما الفريق الثانى فهو اتجاه معاصر لبعض الباحثين وتمثله الباحثة المسلمة الأمريكية «لالا بختيار» التى فسرت النص بالإنجليزية على أساس أن «الضرب» المذكور إنما هو بمعنى «الترك والهجران« كقول العرب «ضرب فى الأرض» بمعنى «سافر للرزق», وهذا الاتجاه وإن كان لاشك يرنو إلى الدفاع عن النص فإنه لا يُقبل تفسيرا ولا تأويلا, فكل تصاريف المصدر «ضرب» فى القرآن إذا جاءت مجردة فلا تفيد إلا الضرب البدنى كقول الله: «فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا« البقرة 73, وقوله: «يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ» الأنفال 50.
ولكن الذى لم يتنبه إليه أحد من المعاصرين أن الإشكالية فى فهم الآية لا تختص بلفظ «الضرب» ولكن الإشكالية الحقيقية فى الفهم المغلوط لمعنى «النشوز» وهو رأس الآية وعمود سياقها, ولنعرج بإيجاز على أقوال المفسرين فيها.
نص الآية: «فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا» النساء 34.
أقوال المفسرين فى معنى نشوز الزوجة:
ابن كثير: «والنشوز: هو الارتفاع، فالمرأة الناشز هى المرتفعة على زوجها، التاركة لأمره، المُعْرِضَة عنه، المُبْغِضَة له» (2/294).
القرطبى: «فالمعنى: أى تخافون عصيانهن وتعاليهن عما أوجب الله عليهن من طاعة الأزواج» (5/170-171).
الطبرى: «فإنه يعنى: استعلاءَهن على أزواجهن، وارتفاعهن عن فُرُشهم بالمعصية منهن، والخلاف عليهم فيما لزمهنّ طاعتهم فيه» (8/299).
فغاية ما فسره الأوائل وتبعا لهم كل المعاصرين أن «النشوز» هو مجرد عصيان المرأة لزوجها وإعراضها عن أوامره.
بيد أننا لو نظرنا لقول المفسرين فى معنى نشوز الزوج لوجدنا منهم عجبا.
نص آية نشوز الزوج: «وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ» النساء 128
أقوال المفسرين فى معنى نشوز الزوج:
ابن كثير: «إذا نشز عن امرأته وآثر عليها» (2/429).
القرطبى: «أن النشوز هو التباعد« (5/403).
الطبرى: يعنى: «استعلاءً بنفسه عنها إلى غيرها أثَرةً عليها، وارتفاعًا بها عنها، إِما لبغْضه، وإما لكراهة منه بعض أسبابها إِما دَمامتها، وإما سنها وكبرها« (9/267-268).
بيان التفسير السقيم لآيتى النشوز:
أخطأ المفسرون عن عمد فى صرف معنى النشوز إلى معنيين مختلفين بين نشوز الرجل ونشوز المرأة, فقد صرفوا معنى النشوز عند الزوجة بالمعصية والإعراض ثم صرفوا معنى النشوز عند الزوج بأنه الأثرة والاهتمام بالزوجة الثانية وتركه وإهماله الزوجة الأولى, وذلك رغم تطابق الآيتين نصا ولفظا وكذلك تماثل السياق والواقعة فيهما تماما, وهذا ما يؤكد بطلان المعنى الذى ذهب إليه المفسرون فى الآيتين معا, فلا دليل من لغة ولا شرع يغاير معنى النشوز من الزوجة إلى الزوج إلا إنه الالتفاف بشكل يكاد يكون مضحكا حول المعنى المتطابق للنص فى الآيتين وذلك لتمكين السلطة على الزوجة.
لو كان معنى النشوز عند الزوجة هو الصحيح لكان المعنى الذى فسروا به نشوز الزوج خاطئا, ولو كان معنى النشوز عند الزوج صحيحا لوجب الاعتراف بأن تفسيرهم لنشوز الزوجة باطل لأنه لا يمكن لعاقل القول بصحة التفسيرين معا على الإطلاق.
أخطأ المفسرون فى تفسير نشوز الزوجة بالمعصية لأوامر الزوج لأنه لا يستقيم فى المعنى, كما أخطئوا أيضا فى تفسير نشوز الزوج بالتباعد عن الزوجة فنص الآية يقول: «نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا» فلو كان المعنى كما يدعون لكان نص الآية يكرر نفسه ويقول:«إعراضا أو إعراضا», حيث المعنى الطبيعى للتباعد هو الإعراض, وبذلك يكون لا معنى للتكرار فى الآية ولا وجه له فى اللغة, وهذا ما يؤكد المغايرة والاختلاف بين النشوز والإعراض, بل إن الطبرى يقول إن نشوز الرجل عن امرأته يكون بذنب منها فهى إما كبيرة أو دميمة لم تعد تصلح للجماع والمعاشرة, فأى قوم هؤلاء الذين ورثنا منهم البداوة الذكورية المجانبة لمقصد وروح الشريعة السمحة.
إذن لا ريب أننا لو استقرأنا الآيتين من خلال القواعد النبوية الثلاث التى ذكرناها لاستوضحنا مفهوم النشوز المراد فيهما:
القاعدة الأولى:
أنه لا يجب فهم القرآن من خلال معنى اللفظ اللغوى فقط بل من خلال مكانه داخل السياق النصى:
فبالنظر إلى آية نشوز الزوجة وإلى السياق البنائى للآية والمؤدى للفظ »النشوز« نجد معنى دلاليا مخالفا لما ذهب إليه التفسير التراثى, فرب العزة يقول فى السياق السابق على النشوز: «الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا».
فالله يوَصِّف فى الآية لأغلى صفة ومزيَّة عند الزوجة المؤمنة الصالحة بل هى رأس القول فى صلاح الزوجة بقوله تعالى: «فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ» والمعنى الصريح أن الصالحات من الزوجات هن اللاتى يحفظن أزواجهن بالغيب فى أنفسهن وعرضهن, ومن هنا يتبين أن السياق القرآنى لم يكن يتكلم فى المطلق أو العام لكنه يحدد الصفة الأساس فى صلاح الزوجة المؤمنة وهى حفظ نفسها بالغيب, وتعقيبا على ذلك واتصالا بنفس السياق قالت الآيات مباشرة:
«وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ», وهذا الاتصال الأكيد للسياق لم ينفصم ولم ينفصل عما قبله من ذكر صفة العفة للزوجة, بما يبين بالقطع أن النشوز المراد هو نقيض صفة العفة المذكورة عن الزوجة الصالحة, وبذلك أن النشوز المراد هو نشوز الزوجة عن منظومة العفة بمعنى تعلق المرأة بغير زوجها بما يخالف مفهوم حفظ النفس بالغيب وبما يعد من مقدمات الفاحشة دون الوقوع فيها, ولهذا بدأ رب العزة استئناف الكلام بعد ذكره صفة عفة الزوجة بقوله: «وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ», ومما يدلل على ذلك أيضا أن استخدام القرآن دوما لصيغة «تَخَافُونَ» يأتى على وجه إفادة اليقين بحدوث الشىء وليس توقع حدوثه ومن مثل ذلك قوله تعالى: «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى» بمعنى تيقنتم وقوله: «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ» بذات المعنى, ومن هنا نستوضح أن المراد من قول الله بمعنى واللاتى تيقنتم من نشوزهن فى أمر الصلاح والعفة بفعل من مقدمات الفاحشة دون الوقوع فيها, وهذا ما يؤكد أن معنى النشوز المراد لا علاقة له بأى وجه بعصيان أمر الزوج, ولكنه توصيف لحالة خروج وبروز عن المنظومة الصالحة للمرأة المؤمنة وهى عماد البيت والأسرة فيرتب على هذا النشوز غير المفترض حدوثه فى البيت المسلم معالجة الأمر بالنسبة للأسرة إما بالنصح أو بغيره وهو ما انتهى بقول الله عن »الضرب« والضرب هنا هو نتاج ما يعتمل من الغيرة والغضب فى قلوب الرجال مؤمنهم وكافرهم مسلمهم وملحدهم نتاج نشوز الزوجة المتكرر عن العفة, وهذا الغضب الذى افترضته الآية -ولم تأمر به- أنه قد يصل فى مراحله المتأخرة للعراك والتبارز بالأيدى, إذن ففهم النشوز على وجهه الصحيح وتبعا للقاعدة الأولى من قواعد التفسير النبوية يقودنا بالضرورة لاستيضاح عوار التفسير الذى ذهب إليه أهل التراث أن النشوز هو فقط عصيان الزوج فى أوامره, كما أن القبول بتفسير النشوز بأنه العصيان يقودنا إلى القول بأن مفهوم سياق الآية لا معنى له وكأنها تقول: «الزوجة الصالحة صفتها العفة وحفظ النفس, والجو جميل والطقس رائع».
ولكن الحق أن النشوز المقصود هو استثناء ونقيض من العفة السابق ذكرها ووصفها, ومما يؤكد على معنى النشوز الذى قلنا به وهو البروز عن منظومة العفة هو تعقيب الآيات بعدها, ففى سياق متصل يقول تعالى: «فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا», وهنا نستوضح أن المرأة إن عادت لرشدها ولم تأثم فان الله ينهى عن البغى عليها, والطاعة المذكورة فى الآية ليس المراد منها طاعة العبد لسيده، والتى هى علاج العصيان كما ادعى المفسرون, ولكن الطاعة فى النظم القرآنى تأتى بمعنى الاستجابة وليس الانقياد والإذلال والدليل هو قول الله تعالى عن النبى: «وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ» الحجرات7, ولا يمكن لعاقل القول إن الطاعة المقصودة أن يطيع النبى الصحابة طوع المرؤوس لرئيسه، ولكن الطاعة بمعنى الاستجابة, ومن هنا نتبين أن الطاعة من النساء مقصود بها الاستجابة والعودة للرشد, والدليل الثالث فى التأكيد على مفهوم النشوز بالخروج عن العفة هو استمرار السياق فى الآية التالية لذات المعنى بقول الله: «وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا» وهذا الشقاق ما يؤكد أن النشوز أمر جلل وليس مجرد العصيان للزوج، ففى حال استحالت العشرة بينهما فيكون التحيكم من الأهل بغية الإصلاح وهذه نقطة النهاية فى الأمر فإما وفاق دائم بعدها أو فراق دائم بالطلاق من جانب الرجل وبالمخالعة -الخلع- من جانب المرأة.
أما الدليل الرابع على معنى النشوز الذى نقول به فهو فهم نشوز الرجل على وجهه الصحيح فالآية تقول: «وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ» النساء 128, فلو نظرنا إلى معنى نشوز الرجل من خلال السياق البنائى المتصل نجد الآية التالية عليه تقول: «وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَة», فمن هى المعلقة التى يحذر الله الرجل أن يتركها هكذا إلا لو كانت من تكلمت عنها الآيات فى صدر السياق بقول الله: «وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا» فالآيات متصلة بمعنى مترابط أن هذه المرأة التى تيقنت من نشوز الزوج وتعلقه بالزوجة الثانية تعلقا كاملا وتركه لها معلقة، وهو ما يؤكد أن النشوز المقصود متطابق عند الزوج والزوجة وهو الخروج عن منظومة الصلاح والعدل فى الزوجية من جانب الرجال.
وأما اختلاف المعالجة بين النشوزين مع اتحاد معناهما فيمثل العدالة الإلهية, حيث إن نشوز المرأة عن الصلاح والتقوى إنما هو مقدمة للحرام والفاحشة حيث لا يحل للنساء فى أى دين ولا فطرة أن تتزوج رجلين، فكانت المعالجة بطريق الإصلاح بينهما ثم التحكيم من الأهل ثم الافتراق أو الاتفاق, وأما نشوز الرجل وهو بذات المعنى حيث يعد نشوزا وبروزا عن منظومة المودة والرحمة والعدل من تعلق الزوج بالزوجة الأخرى ولما كان ذلك حلالا للرجل، ولكنه حلال مكروه وذلك فى جزم الله فى الآية التالية فى السياق أن العدالة بين النساء هدف لا يدركه الرجال فكانت المعالجة بذات الطريقة، فخيرهم بين العدل أو الاكتفاء بزوجة واحدة ثم أنهى الله السياق بذات التدرج فى آية نشوز المرأة الذى قد ينتهى بوفاق دائم أو فراق دائم بقوله: «وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ».
هذا هو المفهوم العادل والعاقل لمعنى النشوز المتكافئ عند الزوجين والمتسق والمتفق مع مقاصد الشريعة الكلية وعدالتها الموضوعية, وهو ما يؤكد بطلان وفساد تفسيرات أرباب القبيلة الذين بدلوا الكلم عن مواضعه, وعليه فإن الضرب المذكور فى القرآن هو بمعنى عراك الغيرة وهو حالة فطرية خاصة لواقعة خاصة قد لا يشهدها البيت المسلم إلا نادرا, وليس كما ادعوا أن للزوج أن يضرب زوجته للتأديب كالحيوان فليس ذلك فى شريعة الإسلام على الإطلاق.
أما القاعدة الثانية:
أن القرآن كل لا يتجزأ من ناحية الفهم لذا فإن تفسير نصوصه ببعضها البعض هو السبيل لفهمها.
وهذه القاعدة تمثل الهدى النبوى فى فهم النصوص والألفاظ من خلال تفسير القرآن ببعضه, فإذا ما نظرنا للفظ «النشوز» نجده ورد فى القرآن فى موضعين آخرين غير الذى ذكرنا فقال سبحانه: «وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا» المجادلة 11, وقوله تعالى: «وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا» البقرة 259, ولو نظرنا للمعانى التى يحملها اللفظ فى الآيتين لوجدناه مقاربا وإن تغير السياق, ففى الآية الأولى يأتى النشوز بمعنى الظهور والخروج والبروز من عند رسول الله، وهو بخلاف الجلوس والمكث والمعنى هنا مقارب لما قلنا به ومخالف لما قاله التراثيون, وكذا المعنى فى الآية الثانية، فالله يأمر عبدا له بأن ينظر للعظام كيف ينشزها الله والإنشاز هنا هو إبراز العظام وتركيبها، وهو أيضا ذات المعنى المقارب لما بينا سابقا والمباعد لما قاله التراثيون عن النشوز.
أما القاعدة الثالثة:
أن تفسير المشكل من القرآن لا يرجع فيه إلا لقول صحيح ومرفوع إلى النبى:
وسنوجز العرض لهذا فى عدة أسئلة:
1 - هل استند المفسرون فى فهم إباحة الضرب لنشوز الزوجة بمعنى التأديب من عصيان الزوج لأى حديث صحيح مرفوع للنبى؟ الإجابة: لا, فليس هناك حديث يصح عن النبى فى هذا المعنى, وأما الحديث الذى استدل به المفسرون: «عن عكرمة: قال رسول الله: اضربوهن إذا عصينكم فى المعروف ضربًا غير مبرّح» فهو حديث ضعيف مرسل واهٍ لا يصح الاحتجاج به من أى وجه.
2 - هل استند المفسرون فى معنى النشوز عند الزوج بأنه الاستعلاء على الزوجة وكرهها لكبرها أو لدمامتها لحديث صحيح عن النبى؟ الإجابة لا, ولكن المفسرين -وكعادتهم الأليفة- أتوا برواية ضعيفة أن النبى أراد مفارقة زوجته السيدة «سودة» وفسروا بها آية نشوز الزوج من زوجته العجوز, وهو كلام باطل لأن هذه الرواية ضعيفة واهية لا تصح, وأما استدلالهم بالحديث الموقوف على السيدة عائشة والذى أخرجه البخارى عن قولها فى نشوز الرجل: «الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ المَرْأَةُ لَيْسَ بمُسْتَكْثِرٍ مِنْهَا يُرِيدُ أَنْ يُفَارِقَهَا فَتَقُولُ أَجْعَلُكَ مِنْ شَأْنى فى حِلٍّ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فى ذَلِكَ» (2318), فهو استدلال خاطئ لأن السيدة عائشة تتكلم عن الصلح من النشوز, وليس معنى النشوز لأن قولها «ليس بمستكثر منها» هو وجه من الإعراض وليس النشوز, فالآية نزلت فى الحل والصلح من نشوز الزوج , لذا فإن استدلالهم بهذه الرواية استدلال فى غير مكانه ولا محله.
3 - هل هناك حديث صحيح عن واقعة سبقت نزول آية النشوز للزوجة توضح أن نشوز الزوجة هو العصيان والامتناع، وأن الضرب المذكور هو للتأديب من للعصيان؟ الإجابة بالتأكيد لا, أما الواقعة التى يستشهد بها عامة المفسرين بأنه قد أتى النبى رجل من الأنصار بامرأة تشتكى ضربا أثر فى وجهها، فقال رسول الله: «ليْسَ ذَلِكَ لَه». فأنزل الله: «الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ» فقال رسول الله: «أَرَدْتُ أمْرًا وأرَادَ الله غَيْرَه», فهى رواية موضوعة ومكذوبة على النبى لأن فى إسنادها »محمد بن محمد الأشعث« وهو كذاب من أكبر الكذابين ووضَّاع شهير للحديث.
أما الرواية الثانية التى يستشهد بها المفسرون وهى أن النبى رخص فى ضرب الزوجات, أبوداود (2146), والنسائى (9167), فهذا حديث ضعيف وبعضهم جعله بمنزلة الحسن, والحديث الحسن كما يقر المنصفون من أهل الحديث إنما هو فرع من الحديث الضعيف فلا يحتج به.
4 - هل هناك حديث صحيح مرفوع للنبى ينهى فيه عن ضرب الزوجات؟ الإجابة نعم فقد أخرج البخارى: «لا يجْلِدُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ العَبْدِ ثمَّ يُجَامِعُهَا فى آخِرِ اليَوْمِ» (4908) والمفهوم هنا ليس قبول النبى بجلد العبد بل هو من قبيل المثال على عدم وجود علاقة مودة ولا رحمة بين الرجل وعبده، وهو بخلاف ما بين الرجل وامرأته فيستنكر الرسول بالعموم أى امتداد ليد الرجل على امرأته, وإنما خص الرسول النهى عن السوط-الكرباج- لأن تلك الجلافة والغلظة كانت ما تزال متأصلة فى حديثى العهد بالإسلام والنهى هنا لأى ضرب للزوجة من زوجها.
كما أخرج مسلم من حديث عائشة رضى الله عنها: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئَاً قَطُّ بِيَدِهِ وَلا امْرَأَةً وَلا خَادِمَاً» (4296), وهذا ما يؤكد أن السنة الفعلية للنبى لم تكن تعرف معنى ضرب الزوجة قط, وأيضا يؤكد أن نشوز الزوجة لا علاقة له بعصيان الزوج, لأنه قد صح عن النبى أن زوجاته أمهات المؤمنين قد أغضبنه وعصينه، ومع ذلك لم تمتد يده عليهن وهو تفسير عملى نبوى يؤكد أن النشوز الذى يعقبه العراك بين الزوجين ليس بمعنى العصيان من الزوجة على الإطلاق.
أما السؤال الأهم:
هل هناك حديث صحيح عن النبى ذكر فيه معنى النشوز الحقيقى؟ الإجابة نعم, فقد أخرج مسلم حديث خطبة الوداع من قول النبى: «وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدَاً تَكْرَهُونَهُ فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبَاً غَيْرَ مُبَرِّحٍ» (1218), وهذا هو الحديث الوحيد الصحيح الذى جاء فيه لفظ صحيح يفسر لنا معنى النشوز على وجهه المراد, فهذا الحديث فى خطبة الوادع وبعد سنوات من نزول سورة النساء الوارد بها معنى نشوز الزوجة والزوج, لذا فإن قول النبى: «أَنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدَاً تَكْرَهُونَهُ», هو النشوز المراد من الآية, والمقصود بوطء الفرش هو مقدمات لعدم حفظ الزوجة لنفسها بالغيب مما دون الإثم الذى يعد خيانة كبرى, وذلك ما يدحض تفسير التراثيين بأن نشوز الزوجة هو العصيان, وإلا فلما لم يقل رسول الله فلكم عليهن «السمع والطاعة», وما يدلل أيضا على معنى وطء الفرش أنه النشوز ومقدمات الفاحشة هو ذات الحديث فى رواية «الترمذى» الذى أخرجه بلفظ شارح بقول النبى: «إلاَّ أن يأتين بفاحشةٍ مُبَيِّنَةٍ، فإن فعلنَ فاهجروهنَّ فى المضاجعِ، واضربوهنَّ ضرباً غيرَ مُبَرِحٍ» (1163), وفى هذا اللفظ بيان صريح للعاقل أن الرسول يفسر آية النشوز فى خطبة الوداع، ويؤكد بلا مواربة أن النشوز الذى يستوجب الهجر وما بعده إنما هو الفاحشة المبينة, فلو جمعنا اللفظين علمنا أن الفاحشة المقصودة هى تساهل الزوجة فى بيتها فى غيبة الزوج, وهذا بالضبط ما قلنا به من خلال تفسير الآية بالقرآن, فكيف ألمت الغفلة عن عمد بأهل التراث وفسروا النشوز المستوجب الهجر والشقاق بالعصيان وتركوا كل الأدلة الصريحة والصحيحة من القرآن والسنة التى توضح المعنى المقصود بالنشوز وهو نقيض العفة الزوجية.
إذن ماذا نستنتج من كل هذا؟
نستنتج أنه ليس فى الإسلام شىء اسمه ضرب الزوجة للتأديب مثل الحيوان، وحتى الحيوان نهى النبى عن ضربه, ونستنتج أن الله لا يظلم مثقال ذرة, ونستنتج أن المفسرين الأوائل فسروا النشوز بلا نظر فى وحدة الموضع ولا السياق ولا حتى حديث يصح عن النبى، بل إنهم قد أغفلوا عن عمد الحديث الصحيح الوحيد الذى فسر وأكد فيه النبى أن النشوز هو نقيض العفة وليس كما قال مفسرو القبيلة, ونستنتج أن آية النشوز لا تعدو تتكلم عن واقعة لا تكرر إلا نادرا فى البيت المسلم يستتبعها شقاق كبير حدد الله مساره بالوفاق أو الطلاق.
كما نستنتج أن ميراث الغفلة الذى ورثناه عن القوم ميراث يحتاج لوضعه فى المتاحف الأثرية، وأنه قد آن لنا أن ننهل فى فهمنا من النص مباشرة من خلال الاستناد إلى وحدة موضوعه وكليته وضبط تفسيره بمقاصد الشريعة العليا وأهدافها السامية واثقين بعدالة الإله المطلقة.
ولكن المؤسف حقا أننا نجد المخلوقات الوهابية تردد باستمرار على شاشاتها مفهوم ضرب الزوجات للتأديب، وكأن هذه الآية بتفسيرها المغلوط هى اختصار لهذا الدين العظيم, بل تجدهم يؤكدون أن السوط-الكرباج- هو العلاج الناجع لصلاح الأسرة المسلمة, والمؤسف أكثر أن البسطاء يصدقونهم بل يعتبرونهم شيوخ الهدى ومصابيح الدجى, رغم أن أقوالهم ما هى إلا طلع فاسد من رؤوس الشياطين, ولكن العزاء -غير المباشر- الذى يسرى عن النفس أن شرائط وحلقات ودروس هذه المخلوقات الوهابية إنما يفترشها البائعون على الأرصفة دوما بموازاة حذاء الناظر إليها, وحسنا فعل البائعون فإن ذلك هو المقام الطبيعى لغثائهم، مقام لا يعلو الحذاء أبدا, ولعل حذاء أحدنا يكون أكثر أهمية وشأنا ومكانة من أقوالهم.