دراسة تحليلية من كتاب "مآسي الخلافة كنظام للحكم" تحت الطبع لمؤلفه الكاتب المفكر عبد المنعم الخن - (الباب الثاني - الخلافة العباسية - الفصل التاسع.. خلافة الواثق بالله بن المعتصم الخليفة العباسي التاسع)
.
هو هارون الثاني الواثق بالله بن محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد (232هـ/847) وهو تاسع خلفاء العباسيين في العراق. ولد في بغداد سنة 200 هـ. ، وبويع بالخلافة في اليوم الذي توفي فيه أبوه محمد المعتصم ، وذلك يوم الخميس 11 من ربيع الأول سنة 227 ، وأم الواثق أم ولد (أم ولد هو إصطلاح يطلق علي الجارية التي أنجبت سواء ولد واحد أو أكثر وسواء ذكر أم أنثي) وهي رومية تسمى قراطيس.
.
سماته وصفاته:
كان الواثق أبيض وتعلوه صفرة حسن اللحية في بياض عينه نقطة سوداء . وافر الأدب مليح الشعر وكانوا يسمونه المأمون الصغير لأدبه وفضله، وكان المأمون يجلسه وأبوه المعتصم واقف، وكان يقول: يا أبا إسحاق لا تؤدب هارون، فإنى أرضي أدبه، ولا تعترض عليه في شىء يفعله. وكان من أهل الحديث قائماً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكان شاعراً وكان أعلم الخلفاء بالغناء. وله أصوات وألحان عملها نحو مائة صوت وكان حاذقاً بضرب العود راوية للأشعار والأخبار. وقال يزيد المهلبي كان الواثق كثير الأكل جداً. وقال حمدون بن إسماعيل: ما كان في الخلفاء أحد أحلم من الواثق ولا أصبر على أذى .
.
توليه الخلافة:
بويع الواثق بالله هارون بن المعتصم في اليوم الذي توفي أبوه، وذلك يوم الخميس 18 من ربيع الأول سنة 227 , وعمره سبعة وعشرون سنة،
.
إخماده للثورات وتأديبه للخارجين وإحسانه لأهل مكة والمدينة:
لما مات المعتصم، ثارت القيسية بدمشق، وعاثوا وأفسدوا، وحصروا أميرهم بدمشق. فبعث إليهم الواثق عسكراً مع رجاء بن أيوب فقاتلهم، وكانوا قد اجتمعوا بمرج راهط فقتل من القيسة نحو ألف وخمس مائة، وانهزم الباقي، وبذلك قضي علي الثورة في دمشق , ونفس الشيء في فلسطين , وكان كل ذلك بسبب الإحتكاكات بين السكان العرب والجيوش التركية التي شكلها والده المعتصم ، كما لقَّن الخارجين على الدين والآداب العامة درسًا لا ينسى، وعزل من انحرف من الولاة ، وفى عهده فتحت جزيرة "صقلية"، فتحها الفضل بن جعفر سنة 229 هـ.
.
وفي عهده أغدق على الناس بمكة والمدينة حتى لم يبقَ سائل واحد فيهما , ولما بلغ أهل المدينة موته، كانت تخرج نساؤهم إلى البقيع كل ليلة، ويندبن الواثق، لفرط إحسانه إليهم.
.
المآخذ التي أخذت عليه
ويؤخذ عليه أنه سلك مذهب أبيه المعتصم، وعمه المأمون في امتحان الناس بالقرآن وألزمهم القول بخلق القرآن، وأن الله لا يُرى في الآخرة بالأبصار, وسيطر عليه الفكر المعتزلي وتعصب له وكان يدعو إلى القول بخلق القرآن ليلاً ونهارًا، وألزم الناس بهذا القول (بخلق القرآن) , وفي عهده ارتكب جرمًا شنيعًا إذ قُتِل أحمد بن نصر بن مالك الذي كان من أهل العلم والديانة والعمل الصالح والاجتهاد في الخير، وكان من أئمة السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وممن خالف رأي الخليفة في مسألة خلق القرآن.
.
وفاة الواثق بالله:
قال زرقان بن أبي داود لما احتضر الواثق ردد هذين البيتين:
الموت فيه جميع الخلق مشترك لا سوقة منهـم يبقى ولا ملـك
ما ضر أهل قليـل في تفرقـهم وليس يغني عن الأملاك ما ملكوا
ثم أمر بالبسط فطويت وألصق خده بالتراب وجعل يقول: يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه.
ويذكر أنه لما اشتد مرض الواثق، أحضر المنجمين، فنظروا في مولده، فقدروا له أنه يعيش خمسين سنة مستأنفة، من ذلك اليوم، فلم يعش بعد قولهم إلا عشرة أيام ، وكانت وفاته في سامراء بالحمى في 24 من ذي الحجة سنة 232هـ , وكانت خلافته، خمس سنين وتسعة أشهر، وعمره اثنتان وثلاثون سنة.
.
وتوفي الواثق، ولم يعهد لأحد من بعده فاجتمع كبراء الدولة يومها وهم: أبو دؤاد القاضي ومحمد بن عبد الملك الوزير وإيتاخ من قواد الأتراك وغيرهم ليختاروا الخليفة، فاختاروا جعفر المتوكل على الله , وسيأتي ذكره في الفصل العاشر من الباب الثاني "الخلافة العباسية" بإذن الله.