السفهاء قديما وحديثا تناسوا العقل وأهملوا الفطرة والتفوا حول النص ليخرجوا لنا حفنة من الروايات الممهورة بختم الجودة المقدس طالبين من العقل المسلم ويشترى عقله وقلبه بمروياتهم البالية التى أتت على النقل والعقل معا إلا ما رحم ربى
مر تدوين الحديث النبوى بمراحل شتى من التطور والارتقاء, بدءا من الانتقال الشفاهى بين الصحابة ثم مرحلة تداول الحديث النبوى بين طبقة - جيل التابعين, ثم ظهرت طبقة - جيل - صغار التابعين وتابعى التابعين وظهر معها الكذابون والمدلسون وأصحاب الغرض ومنتحلو الأحاديث لأسباب سياسية أو دينية أو مذهبية, وبالتوازى مع ذلك تطور النقل الشفاهى إلى مرحلة أولى من التدوين المكتوب مع نهاية القرن الهجرى الأول, وقد كان التدوين المكتوب يمثل حينها خطوة مبدئية مضادة لقلة الحفظ وفساد الذمم وانتشار الكذب على رسول الله, ثم بدأت بعدها مراحل من الترقى والنضوج لفكرة علوم الحديث ومصطلحاتها كخطوة ثانية فى طريق تنقيح المروى عن أو على رسول الله فظهر بالتدرج الاعتناء بالسند وهو سلسال الرجال الذين نقلوا الحديث واحدا عن الآخر أو جماعة عن الأخرى وصولا إلى الصحابى أو الصحابة الذين سمعوا قول النبى بالمباشرة.
وقد أسهبنا فى كثير من مقالاتنا السابقة فى شرح وتفنيد الإيجابيات والمثالب التى تطرقت إلى التطبيق العملى والواقعى لظهور فكرة الاعتماد على السند فقط فى تصحيح أو تضعيف الحديث, ولكن ما يعنينا فى ذلك أن السند -وبعيداً عن تطور فكرته واستحكام قوته مع بداية القرن الهجرى الثالث- كان إيذانا ببدء التطور للخلف أو العد العكسى لظهور الأحاديث الضعيفة والموضوعة والباطلة وتسللها بل واضطجاعها فى ما سمى بعد ذلك بالكتب الصحاح وكتب المسانيد، رغم إنه من المفترض للنتيجة أن تكون عكسية بالنسبة لتطور الاعتماد على فكرة السند بحيث تقل الأحاديث والروايات الضعيفة والباطلة نتيجة التثبت من ذلك عن طريق السند, وهو ما يبرز السؤال لماذا تطورت النتيجة سلبا وليس إيجابا هل لخطأ النظرية أم خطأ التطبيق أم لخطأ الآلية المصاحبة للتطبيق والنظرية.
وكما ذكرنا سابقاً فى كثير من مقالاتنا أن فكرة السند كنظرية تطورت تطورا عكسيا بحيث أصبح السند من سبيل ووسيلة يستوثق منها وبها من قوة وضعف الرواية أصبح بعد اكتسابه قوة أكبر من حجمه قيدا على الحرية فى قبول أو رد الروايات فلم يصبح بعد تعاظم دور السند من الممكن أن يرد أو يضعف حديث فاسد وطالح المتن - النص - لمجرد أنه كان فى نظر بعض التراثيين ورد بسند قوى أو ما دونه مما يصححه التراثيون كرامة لصاحب المصنف الكتاب - وليس تثبتا من صحته حسب القواعد المنظرة.
أما على مستوى التطبيق فقد شاب تعاظم دور السند كما بينا سابقا تقزيم لدور التنقيح الذى يجب أن تمر عليه الرواية على مستوى المتن - النص - لكى نحكم بظنية تقترب من اليقين أن تلك الرواية عن أو على النبى قد قيلت أو وقعت, ولكن الذى حدث على المستوى التطبيقى أن الضوابط التى وضعها المنظرون الأوائل الذين كان بعضهم متجردا من الهوى والتقديس للبشر كانت كقبض الريح ضوابط تزينت بها جنبات الكتب والمصنفات دون تطبيق على المستوى العملى رغم تواتر الأدلة والقرائن الصحيحة والقاطعة المروية عن كبار أشياخ الصحابة فى ضرورة التثبت من النص بعرضه على هذه الضوابط, وهى، وكما دونها المحدثون الأوائل, الضابط الأول لعدم مخالفة الرواية للظاهر الصريح من آيات القرآن, أما الضابط الثانى فعدم مخالفة الرواية لصريح المعقول - العقل.
فلما غابت هذه الضوابط -التى كان أول من أصَّل لها كبار الصحابة- عن التطبيق العملى, انساحت وانسابت الروايات الضعيفة والباطلة فى كل كتب الصحاح بلا استثناء لتمثل وعيا مغايرا عن أحاديث النبى ووقائع أحوال النبوة ومجتمعها.
اجهاض فكرة عدم مخالفة الرواية للعقل:
ولكن ما يسترعى الالتفات والنظر والتبصر هو ضابط ثالث وباب هام غفل عنه التراثيون ولم تتنبه له الدراسات المعاصرة التى حاولت وتحاول تنقيح الصحاح مما علق، ليس بها، ولكن بالسنة النبوية قولاً وفعلاً وأحوالاً.
ففى حين نجد التراثيين وأتباعهم المعاصرين يهربون من الضابط الثانى لقبول الروايات والحكم عليها بالصحة والضعف وهو ضابط عدم مخالفة الرواية للعقل, بقولهم إن العقول متفاوتة ومتباينة فكيف نحكم على الرواية بالعقل وإذا حكمنا عليها بالعقل فأى عقل نحتكم إليه, ومن هذا السبيل والقبيل انتهى التراثيون عمداً لإجهاض فكرة عدم مخالفة الرواية للعقل بالوصول إلى النتيجة الخبيثة أن العقل المقصود هو عقل المحدثين والفقهاء وأهل الذكر, وعلى ذلك أصبح ليس من حق العقل المسلم الفرد أو الجمعى أن يناقش تضعيف أو تصحيح الأحاديث التى دونها وأخرجها الأولون فى مصنفاتهم لا بالنقل ولا بالعقل على اعتبار أن عرض الرواية على النقل القرآن - أو عرضها على العقل إنما هو حق خالص سائغ للمحدثين من التراث أو عبيدهم من المعاصرين المسجونين بين دفتى كتبهم لا يخرجون عنها فتيلاً, ومن هذا تبلور عند العقل المسلم المعاصر أن تنقيح الروايات التى انتسبت اصطلاحاً ومعنى للسنة النبوية هذا التنقيح يعتبر خروجاً عن الجادة بل يعتبر خروجاً عن الدين, رغم أنه فى الحقيقة لا يمثل إلا خروجاً على عقول المحدثين والفقهاء الذين قبلوا وصححوا ودونوا وأخرجوا ما يناقض القرآن صراحة ومعنى ومبنى, ويضاد العقل صورة وفهماً وإدراكاً.
وهنا نعود للضابط الغائب أو المغيب وهو الذى يتعدى الضابطين السابقين, أو لنقل الضابط الباقى للمسلم الفرد, فإذا كان التراثيون وتابعوهم من المعاصرين الذين نصبوا أنفسهم كأرباب ينافحون ويدافعون عن كل ما خطت وجادت به أقلام الأولين, فإن للمسلم الفرد فطرة خلقة الله وهى منزرعة فيه, فطرة تسبق العقل الذى احتله أهل الحديث والفقه, فطرة سليمة ومتساوية عند كل واحد من المسلمين بل من البشر كافة, فطرة يستطيع المسلم أن يميز بها الحسن من القبيح, والصحيح من السقيم, والكذب من الصدق, هذه الفطرة التى أغفلها التراثيون ولم يقيموا لها وزناً, والتى أهملها المعاصرون رغم أنها تمثل الباب الواسع للمسلم الفرد أن يستعيد بها المساحة التى احتلت قهراً وغصباً من السادة أهل الذكر إن كنتم تعلمون أو لا تعلمون.
لماذا الفطرة والذوق يعدان ضابطا لقبول الرواية:
لم يخل رد ولا رسالة من القراء طوال عام فائت تعليقا أو تأييدا لمقالاتنا التى اهتممنا فيها بتبيين ضعف عدد من الروايات التى انتسبت للسنة من باب أنها دونت فى الصحاح، إلا ويكاد يكون الرد متطابقا من السادة القراء ومفاده جملة مكررة «كنت دائماً أرفض تصديق تلك الرواية أو الحديث ولكنى لم أملك الدليل على ذلك من قواعد العلم», وهذه الجملة وهذا المفاد هو ما يؤكد ما نذهب إليه بأن الفطرة السليمة والذوق السوى بعيداً عن مغلقات ومتاهات علوم الحديث دراية ورواية, ولأننا نحاول جاهدين أن نسردها مبسطة ومنثورة فى مقالاتنا, هذه الفطرة السليمة والذوق السوى قادر على أن يمثل مرحلة فرز هامة للغاية فى قبول المسلم الفرد للحديث أو الرواية بعيدا عن جهالات التراثيين وأتباعهم الذين احتلوا العقل بدعوى أن قياس العقل متفاوت, ولكن الفطرة هى الانزراع الإلهى بداخل كل نفس بشرية, وهذا ما دعانا للتفكر ودعا السؤال للبروز, لماذا كان القراء والمعلقون من خلال رسالاتهم -رغم اختلاف مشاربهم وعقولهم وثقافاتهم- يجمعون فى قول واحد وكلمة سواء على رفض الرواية الباطلة أو الحديث المنتحل حتى ولو كانوا لا يملكون دليلاً على هذا الرفض الذى تأباه فطرتهم وذوقهم السليم.
الفارق بين الفطرة والعقل:
قديماً دخل المعتزلة فى جدال طويل مع مخالفيهم من الفرق الأخرى حول معرفة القبح والحسن هل هو بالعقل أم بالشرع, ولكن الإشكالية أن المعتزلة كانوا يقصدون بالحسن والقبح معنى الحلال والحرام, بمعنى أن المعتزلة كانوا يرون أن العقل قادر على معرفة الحلال والحرام قبل أن يعلم ذلك من التشريع, وكان المخالفون من الفرق الأخرى يرون أن الحلال والحرام لا يعرف إلا بالتشريع وليس للعقل دور فى ذلك, والحقيقة أن النتائج لهذا السجال الفكرى الطويل كان يمكن لها أن تكون أوفى وأعمق لو أنها تطرقت للتفرقة بين العقل والفطرة, وهما الشيئان اللذان لم يعن المعتزلة ولا مخالفوهم بالتفرقة بينهما, بل ضموا الفطرة مع العقل فى سلة واحدة, وذلك ما مثل خطأ منهجياً فى إغفال دور الفطرة والذوق السوى فى معرفة الحسن والقبيح بعيداً عن قياس القبح والحسن على الحلال والحرام.
فلو كان العقل كما يزعم التراثيون لا يستطيع معرفة الحلال والحرام أو الحسن والقبح بشكل ذاتى لأنه متفاوت بين الناس صعوداً وهبوطاً, سلباً وإيجاباً, علماً وجهلاً, ذكاء وغباوة, فإن التشريع فى ذات الوقت يكون لا معنى له لو تم التعامل معه بغير هذه النعمة الكبرى «العقل», وهذا ما يعيدنا للكرة الأولى أن العقل لديه المقومات لذلك ولكنه فتر وخمد لما تم احتلاله من أهل الذكر.
ولكن الفطرة وهى التى تستطيع وبكل سهولة التعرف على الحسن والقبيح بلا مقومات ولا تثبت ولا أدلة, لأن الحُسن والقبح ذاتيان فى ذلك والفطرة زرع إلهى فى داخل النفس البشرية يستطيع أن يفرز بالأصل السليم والمرجع السوى الذى خلقه الله فى كل نفس على سواء.
ولكن الزاعمين قديماً وحديثاً ادعوا أيضاً أن الفطرة متفاوتة وأنها تنتكس وتنشط, وهذه حجة فارغة من المعنى والحقيقة, لأن انتكاس الفطرة حتى لو سلمنا بوجوده إنما يكون فى الظاهر منها لا فى أصلها الثابت الدائم, ولذلك فإن كل نفس بشرية اتفقت على أن فضلات البشر وروث الحيوانات هى أشياء مقززة لا تستسيغها النفس البشرية مؤمنة أو كافرة وذلك دون أن تتعلم ذلك أو تدركه, وكذلك اتفقت النفوس البشرية رجالا ونساء على تجاذب الطرفين لبعضهما دون أن يدركا سببا لهذا التجاذب إلا أنها الفطرة التى تعطى وتدفع بالمعلومات الأساسية التى زرعها الله فيها لضمان استمرار النوع البشرى, ومن ذلك وغيره نستطيع الاستدلال على قوة الفرز للفطرة السليمة والذوق السوى فى معرفة الحسن والقبيح ذاتيا.
الفطرة فى القرآن:
تأكيداً على قوة الفطرة وسلامتها أصلا وليس ظاهرا فى كل نفس بشرية, يحدثنا رب العزة فى سورة الأعراف عن استواء التكوين الأساسى واكتمال الفطرة الأصل فى قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِى آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ» (173,172) الأعراف, وهنا يحدثنا رب العزة عن الفطرة فى كل نفس بشرية مؤمنة أو كافرة أنها فى عالم بعيد عن الماديات الجسدية آمنت بالله إيمانا تاما بل وشهدت على نفسها بذلك الإيمان, وهذا ما يؤكد ويبين معنى الفطرة وقوة الحقيقة فى داخلها حتى لو خالف الظاهر المادى هذه الحقيقة, فكل مؤمن وكافر هو فى النهاية ذو فطرة مؤمنة وموحدة بالله, لذلك فإن إغفال دور الفطرة وتهميش فرزها عند المسلم الفرد هو نوع من سحق القلة المتبقية للمسلم لمواجهة أصنام الجمود التراثية, ومجابهة أعاصير الجهل والغباوة الوهابية.
وكذلك نجد رب العزة يقول مؤكدا على ذلك المعنى فى سورة الروم «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» الروم 30.
ومما لا شك فيه أن هذه الفطرة السليمة إنما هى الأداة الإلهية التى بسبيلها ومن خلالها يستطيع المسلم الفرد أن يفرز بها كثيراً من الترهات والجهالات التى ضمت عسفا وقهرا إلى كتب التراث, لأن تلك الفطرة من الله تعالى كما أن التشريع كذلك من لدنه, لذا فلا يمكن للفطرة أن تشمئز من التشريع الثابت اليقينى وهو «القرآن».
ولهذا نجد أن القرآن يحدثنا عن أحد أهم القصص الكلاسيكية الجنسية فى تاريخ الأنبياء, وهى قصة نبى الله «يوسف» مع امرأة العزيز, ولأن الفطرة والذوق لا يتصادمان مع التشريع, ولأن الاثنين مبعثهما هو رب العزة, فنجد القصة تمر على ألسنة المؤمن وأسماعه لتزيده إيمانا وتثبيتا, وذلك لحسن الانتقاء للألفاظ وعبقرية التصوير التعبيرى الساتر السابغ فى قصة تبدو مليئة بالشهوة, وكذلك روعة النظم والتركيب البيانى الذى يوازن بين الجسد والروح, بين النية والعزم للوقوع فى الخطأ وبين التذكير بأن الله موجود وحاضر فى النفس البشرية حتى ولو بدا ذلك خافيا, ولذلك نجد الفطرة للعالم والجاهل على سواء لا تنفر ولا تشمئز من استقبال هذه القصة فى القرآن بكل تدبر وخشوع, ومثل ذلك كثير من الدقائق التى تطرق لها الكتاب الحكيم.
وذلك ما يؤكد التوافق والتماهى بين النص المقدس اليقينى الثبوت وبين الفطرة السليمة السوية, تماهياً وتوافقاً لا يكاد ينفصم ولا يتضاد, ولكن ذلك التماهى لا نلمسه فى كثير من الروايات التى تنفر منها الفطرة السليمة بعيداً عن العقل واستدلالاته, وهو ما يعيدنا لأول قول بدأنا به أن الضابط المغيب والمنسى والمتبقى للمسلم الفرد أن يرفض الرواية التى يسمعها أو يقرأها. هى فطرته السوية التى خلقها الله بداخله, حتى يأذن سبحانه بتبيين ذلك أمام عقله بالدليل والبرهان, وهو ما يعيدنا بالتبعية إلى الكلمات المكررة بشكل متطابق, والتى يؤكد فيها الأصدقاء القراء فى رسائلهم وتعليقاتهم أنهم لم يصدقوا يوماً هذه الرواية أو تلك, وهذا الرفض إنما هو أكبر دليل على أن الفطرة ما زالت تفرز وتنتقى الصحيح من السقيم والكذب والدجل من الصدق حتى لو كان التراثيون والوهابيون يحتلون كل مساحات الحرية والتفكير والنقد فى العقل المسلم إلى حين.
إذن:
لا يجب أن يخشى المسلم الفرد من إعلان استهجانه لرواية سمعها أو حديث قرأه, ولا يجب أن يخشى المسلم الفرد من إعادة النظر فى المتلقى عن النبى طالما أننا علمنا أنه نتاج تدخل فيه الكذابون والوضاعون والمدلسون, فمقابل جهل المسلم الفرد فى الغالب بالعلم وأصوله يملك أداة الفرز الإلهى بداخله لتميز له الحسن من القبيح ولتبين له الكذب من الصدق, وقديما قال «المعرى»: «كل عقل نبى», وقد قصد بذلك أن كل فطرة نبى, كل فطرة تستطيع الفرز والتحقق بالذوق السوى السليم الذى وضعه الخالق فيه.
هذه الفطرة المتقدة دوما عند المسلم الفرد التى يتطلع العقل إلى التدليل على تصديقها هى الأمل الحقيقى والوحيد أن يقبل العقل والوعى المسلم أى مشروع لإعادة تنقيح السنة وكتبها بعين ناقدة وبصيرة نافذة, لأن فرز الروايات التى انتسبت للنبى زوراً إنما يبدأ من رفضها أولا ثم ينتهى عند تقديم الورقات العلمية والدراسات والمقالات التى تدلل على ذلك النحو.
ومن الغريب والمدهش أنه ما من رواية ولا حديث منتحل عن النبى ترفضه القريحة السوية داخل المسلم الفرد إلا وهى فى الأساس رواية ضعيفة أو حديث باطل حتى لو اتخذ حصانة متوهمة من خلال قبوعه بين جنبات كتابى البخارى ومسلم, وقد بينا ودللنا على ذلك فى كثير من مقالاتنا.
فالفطرة السوية تعرف جيداً وبعيداً عن متاهات السند والمتن أن النبى قال «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق», وكذلك ذات الفطرة السليمة والذوق النقى يعرف أن الحديث المروى عن النبى أنه دخل عليه رجلان فكلماه بشىء لا أدرى ما هو فأغضباه فلعنهما وسبهما فلما خرجا قلت يا رسول الله من أصاب من الخير شيئاً ما أصابه هذان قال وما ذاك قالت قلت لعنتهما وسببتهما قال أو ما علمت ما شارطت عليه ربى قلت اللهم إنما أنا بشر فأى المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة وأجراً»
هو قول باطل لا يصح حتى لو أخرجه «مسلم», وهكذا نجد الكثير من الروايات الباطلة إنما تفرزها القريحة السوية وتؤيدها العقول الناقدة المتحررة من أغلال الأسر التراثى وسلاسل الجهل الوهابى المظلم.
وعلى هذا المنوال يجب أن ينظر المسلم من خلال ذوقه الذى لا يتصادم مع النص المقدس دوما, وعلى هذا النسق يجب أن يوقن العقل المسلم أن فطرته السوية دليل فى حد ذاتها على التمييز النقى الصافى حتى ولو لم يتح لوعيه أن يستقبل تثبتا مادياً على ذلك التمييز, لأننا يجب أن نوقن أنه هكذا تكلم النبى وهكذا كان وهكذا تكلم عنه القرآن بقوله «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» ولكن السفهاء قديما وحديثا تناسوا العقل وأهملوا الفطرة والتفوا حول النص ليخرجوا لنا حفنة من الروايات الممهورة بختم الجودة المقدس, طالبين من العقل المسلم أن يأتم بهم ويشترى عقله وقلبه وفطرته بمروياتهم البالية التى أتت على النقل والعقل معا إلا ما رحم ربى, المرويات التى أتاها الباطل من بين يديها ومن خلفها, المرويات التى تتقد لها الفطرة السوية والوعى المفرد والجمعى ليستطيع أن يملك حرية التحديد بنفسه ولذاته أن النبى تكلم هكذا ولم يتكلم كتلك, بعيداً عن أختام الجودة التى أصبحت مخالفتها تستوجب عند المأفونين سلاسل وأغلالاً وسعيراً.