بداية ينبغي أن نعترف أن لجنة الخمسين التي أعدت دستور 2014 قد أفسحت الطريق للجماعات التكفيرية للسيطرة علي البلاد من باب التلاعب بالألفاظ , وذلك عندما أقرت اللجنة نص دستوري حصنت به الأحزاب التي تأسست علي مرجعية دينية , حصنتها ضد الحل ففتح لها الطريق للسيطرة علي البرلمان القادم أو علي ثلثيه , ومعلوم أن قيام أحزاب سواء علي أساس ديني أو مرجعية دينية كان محظورا في الحالتين ( الأساس والمرجعية) قبل دستور الإخوان 2012 الذي سمح بتأسيس أحزاب دينية علي مرجعية دينية ومنع إقامتها علي أساس ديني , وكان هذا تلاعبا بالألفاظ من قبل لجنة المائة المنتمية للإخوان , وللأسف سارت علي الضرب لجنة الخمسين في عهد الرئيس المؤقت عدلي منصور وصدر بذلك دستور 2014.
.
هذا كان عود علي بدء لسيطرة الإسلام السياسي علي المشهد الإنتخابي في مصر وهو يعد خيانة لثورة 30 يونيه من قبل لجنة الخمسين , أقول هذا لأن الشعب المصري ما قام بثورة 30 يونيه بالملايين إلا رفضا للسيطرة والإقصاء من قبل حزب ديني تولي السلطة في البلاد في غفوة من الشعب وغفلة من الزمان , وما باقي الأحزاب الدينية إلا نسخ مستنسخة من حزب الحرية والعدالة الذي تم حله بحكم قضائي , وما حزب النور السلفي إلا نسخة شرسة من المستنسخ منه حزب الإخوان الإرهابي , فكيف تهدأ مصر وتنعم بالإستقرار وتسمح بأحزاب علي مرجعية دينية بطلها حزب النور السلفي الذي لا يحترم أرض الوطن ولا العلم الخاص بها والذي يمثل سيادتها ولا السلام الجمهوري الذي يأبي أعضاؤه الوقوف عند عزفه كما أنهم يطلقون علي رئيس البلاد لفظ طاغوت وهو عندهم من حكم بغير ما أنزل الله عز وجل ويكفرونه , وهي في الأصل مسألة فقهية يطلق عليها "الحكمية" ومؤداها "إنما الحكم إلا لله" , وقد وردت في سورة الأنعام ويوسف , وقد فسرها التكفيريون علي غير مراد الله منها , والدليل أن رسول الله صلي الله عليه وسلم حكّم البشر في صلح الحديبية , وفي شأن النزاعات الزوجية أمر الله بتحكيم البشر من أهل الزوج والزوجة { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما } سورة النساء آية 35.
.
و"الحكمية" هذه هي التي أدت إلي ظهور الخوارج بعد قضية التحكيم بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان والتي أنتهت بتولي معاوية الخلافة, وكان هذا هو السبب الأصيل لظهور الخوارج وخروجهم علي علي بن إبي طالب لأن علي حكّم البشر ولم يرجع الحكم لله.
.
ولأن الشعب لم يقرأ دستور 2014 وحبا في رئيسه المنقذ عبد الفتاح السيسي فقد ذهب إلي صناديق الإقتراع وصوت بالموافقة علي دستور لجنة الخمسين وهو بلا شك أسوأ دستور شهدته مصر عبر تاريخيها السياسي , ليس بسبب هذه المادة التي سمحت بتأسيس أحزاب علي مرجعية دينية فقط ولكن دستور 2014 جعل سلطة رئيس الدولة علي صفيح ساخن كما جعل البرلمان أيضا علي صفيح ساخن , فالمادة 161 من الدستورتجيز عزل رئيس الجمهورية بموافقة ثلثي أعضاء البرلمان , كما أن المادة 137 من الدستورتجيز للرئيس حل البرلمان , وذلك ليس بمستبعد عند حدوث خلافات مستقبلية بين الطرفين , الرئيس والبرلمان , وهذه إشكالية كبيرة تؤدي بالبلاد إلي عدم الإستقرار الذي ينشده الشعب بعد ثورتين كبيرتين عاني فيهما الأمرين.
.
وبما أننا علي أبواب إنتخابات برلمانية جديدة , فمن المجدي أن نتناول جماعة الناخبين من حيث ثقافتهم الإنتخابية ودرايتهم بدهاليز السياسة , من أجل ذلك ينبغي إلقاء الضوء علي ثقافة التفكير السائدة لدي الشعب المصري.
.
الفكر السائد لدي الشعب المصري هو مزيج من الفكر البدائي والفكر الديني .. اما الفكر العلمي فلا يتبناه إلا حوالي عشرة في المائة من تعداد سكان مصر البالغ حوالي تسعين مليون نسمة .. وهنا أنوه أن معتنقي الفكر البدائي الممزوج بالفكر الديني لا يعني ان أصحاب هذا الفكر او المنهج هم من يعانون الجهل الأبجدي أو قلة التعليم , وإنما هو فاكر سائد لدي غالبية المتعلمين وغير المتعلمين .. رجال ونساء ومن يتشكك في هذا الكلام فاليرجع إلي حوادث النصب التي ما فتئت سائدة في المجتمع المصري من أناس حرفتهم إستغلال هذا الفكر لدي الناس لإبتزاز أموالهم مقابل شفائهم من الجن والعفاريت التي تلبس أجسادهم او شفاء داء عضال عن طريق تسخير الجن , او طلبا للحب من فلان أو كراهية لعلان , وإقامة حفلات الزار لترتان , وكل هذا ما زال حاضرا لدي فئات كثيرة في المجتمع سواء في المدن أو في الريف والقري علي حد سواء .
.
إذن كيف يفكر المواطن المصري البسيط صاحب هذا الفكر فيمن ينتخبه في الإنتخابات البرلمانية المزمع إجرائها خلال أسابيع قليلة؟ .. إن الأكثرية من الشعب المصري لا تعرف ماذا يعني دستور؟ ولا تعرف ما هو عمل النائب في البرلمان؟ ولا يعرف كثير من المصطلحات السياسية مثل "لبرالية" و"علمانية" و"يسار" و"يمين" و"وسط" و"تكنوقراط" وغيرها؟ ..
.
إذن ماذا يعرف؟ .. يعرف السمع والطاعة للشيوخ في المساجد والزوايا , والسمع والطاعة لكبير العائلة أو القبيلة التي ينتمي إليها , وبمقتضي ذلك سيكون تصويت هذا القطاع الكبير من المصريين حتما سيكون علي خلفية دينية .. فيكفي قليل من الدعاية أن المرشح هذا "مسلم وبتاع ربنا" لينتخبه الناس.. لماذا؟ لأنه لا يعرف شيئا إسمه البرنامج الإنتخابي وإذا عرف الإسم لا يعرف المضمون لأنه لا يقرأ , وكل الذي يعرفه أن إنتخاب المرشح "بتاع ربنا" سوف يزيد في ميزان حسناته ويؤهله ذلك لدخول الجنة .. وإن كان له تطلعات غير ذلك فهي لقمة العيش .. أما الديمقراطية فهي بالنسبة له كفر كما قال له الشيخ وأما الحرية فهي بالنسبة له إمتلاك شخصي له وحده وليست لغيرة , وهذا ما تمخضت عنه الفوضي وأعمال الشغب التي تعاني منها مصر منذ أحداث 25 يناير 2011.
.
وفي سياق متصل نجد أن الأحزاب المصرية رغم كثرتها فهي مشتتة مفككة تخاصم بعضها بعضا يصل إلي حد الإشتباك , وهم غير مستعدين للإنتخابات وليس لهم كوادر مؤثرة لنزول معترك العملية الإنتخابية , حتي حزب الوفد صاحب التاريخ قد إنتقل إلي الرفيق الأعلي ولم يبق منه غير أشلاء علي سفوح التاريخ, أما حزب النور السلفي فهو الحزب الوحيد المنظم والمتكتل والمتحفز بسلاح الشعارات مثل "الإسلام هو الحل" و"وإنما الحكم إلالله" و"الخلافة الخلافة" , بينما هم لا يؤمنون بالديمقراطية أو الحرية ويطيعون ولي الأمر حتي ولو كان ظالما فلا يخرجون عليه إذا أدي ذلك لمفسدة أكبر من بقائه .. وهذا ما حدث إبان ثورة 25 يناير فلم يخرجوا مع الشباب الثائر إلا بعد المؤشرات الدالة علي نجاح الثورة فركبوها مع الإخوان.
.
السلفيون والجماعة الإسلامية ينتهزون الفرصة الآن للوثوب علي الحكم من خلال الإنتخابات البرلمانية التي لم يبق علي إجرائها غير أسابيع معدودات .. وهم يسعون لإقامة الخلافة الإسلامة وطرد كل من يخالفهم في الرأي او يرفض إعتناق أفكارهم طرده إلي خارج مصر .. إلي كندا وإستراليا كما صرحت قياداتهم بذلك , بل ويتهمون من يخالفهم الرأي أنه كافر أشر وإهدار دمه واجب شرعي علي كل مسلم , وهم بذلك يحكمون وينفذون الحكم بأنفسهم.
.
دعوني أعود إلي موضوع هذا المقال وأقول أن الجماعة السلفية وذراعها السياسي سوف يحصدون الكثير من الأصوات وبالتالي الكثير من المقاعد في البرلمان القادم , وهم في هذا الصدد يسعون للحصول علي ثلثي المقاعد ليتمكنوا من عزل رئيس البلاد عبد الفتاح السيسي , وسوف يرضي عن ذلك ويباركه البسطاء من الناس وطالبي الثواب والجنة التي يوعدون بها كل من أعتنق افكارهم , ذلك أن الشعب المصري شعب طيب متدين عبر العصور والدين عاطفة تنفذ إلي القلوب والضرب علي وتر الدين يجد صدي لدي هذا الشعب لأنه لا يهمه غير رغيف العيش قوتا في الدنيا والجنة مقاما في الآخرة .. ويذكرنا التاريخ بصكوك الغفران التي كانت تباع من قبل الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطي في أوربا فكان البسطاء من الناس يشترونها رغبة في دخول الجنة وكان المفهوم البدائي والديني آنذاك هو السائد والذي أدي إلي تخلف و تخبط أوربا في ظلام الجهل والإنحطاط والبعد عن الفكر العلمي المستنير وكان من يتبني نظرية علمية أو يقوم بعملية إجهاض لإمرأة علي وشك الموت كان يعدم أو يخوزق بخازوق يمر خلال جسده حتي الموت .
.
الفكر العلمي لا يعني الكفر كما يدعي الضالين المضللين من أهل الجماعات التكفيرية علي إختلاف أسمائها .. ولأنهم كذابون وضالون فهم لا يعترفون أن العلم هو أول مقاصد الشريعة ( كتاب مقاصد الشريعة لأبي إسحاق الشاطبي ) .. إن أول كلمة في القرآن الكريم هي أقرأ ( أقرأ وربك الأكرم ) سورة العلق الآية 3 و( الذي علم بالقلم ) سورة العلق 4 .. صدق الله العظم وقد أكد الله سبحانه في كتابه الكريم أيضا أن العلماء هم اول من يخشون الله في الآية الكريمة رقم 28 من سورة فاطر ( ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشي الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور ) صدق الله العظيم .
.
وأخيرا كل ما نرجوه أن تمر الإنتخابات البرلمانية التي هي علي الأبواب .. أن تمر بأمن وسلام لا تقتل فيها نفس أو تصاب بجرح { من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } سورة المائدة آية 32 , وعلي الشعب المصري أن يقرر مصيرة بفكر متفتح مدقق ولا يعطي صوته إلا لمن وثق بأهليته لتمثيله في البرلمان القادم بعيدا عن تجار الدنيا والدين وبعيدا عن العصبيات العائلية والقبلية , وعلي كافة الأطراف التي قد لا يحالفها الحظ في الحصول علي مقعد في البرلمان أن يتقبل رغبة الناخب بكل صدر رحب فهذه هي الديمقراطية خاسر إنتخابات اليوم قد يكون فائزا في إنتخابات أخري قادمة والعكس صحيح أيضا.
.
مصر لن تتحمل تجربة ثالثة أو ثورة أخري وكفانا ما ألم بنا من أحداث دامية ومصائب جسام سيظل يعاني منها الشعب لعقود , ونسأل الله السلامة والأمن لمصر والمصريين , وهذا وعد الله ووعد الله حق.