أقمت في نيويورك عشرين عاما إقامة دائمة وتعرفت علي ثقافة وسلوك العديد من الجاليات التي تعيش هناك , وفي مقالي هذا سأتناول ثقافة وسلوك جاليتين كبيرتين هما الجالية اليهودية والأخري الجالية العربية وذلك لأهمية المقارنة بين الجالتين فيما يتعلق بوطنية وحب كل منهما تجاه بلده أو وطنه الأم ( Motherland ) .
.
في أمريكا تمتلك اليهود ناصية القرار الأمريكي وكيف يسيّرون كل شيء لصالح أرض الميعاد وهو الإسم الذي يطلقونه علي الوطن الأم اسرائيل أو اسرائيل الفتية , ولو طلب تبرع من يهود أمريكا لصالح اسرائيل خصوصا وقت الحرب لتبرع اليهود هناك ليس بالمال بل بالحياة وهم مستعدون أن يموتوا فدي اسرائيل , وقد أدركوا أهمية وخطورة وقوة العرب أو هكذا كانوا متصورين فأعدو أنفسهم لمواجهة العرب الذين يعتبرونهم ألد الأعداء , من أجل ذلك أعدوا أنفسهم بالقوة الناعمة أو بمتلازمة "العلم والإقتصاد والسياسة".
اليهود في بلاد العم سام لا يتعلمون في مدارس الحكومة , فهم أنشأوا مدارسهم الخاصة يعلمون فيه أولادهم تسمي "مدارس الشيفا سكول" , ويمتلكون الباصات التي تحمل الأولاد إلي هذه المدارس والعودة بهم إلي منازلهم , وهي باصات مميزة بلون خاص وبلوجو "الشيفا سكول" باللغة العبرية , أما مناهج هذه المدارس فتتضمن كافة العلوم بالإضافة إلي تعليم اللغة العبرية "اللغة الأم" وتدريس تعاليم الديانة اليهودية , وتعليم اللغة
العربية كلغة العدو الذي يتربص بالدولة الأم إسرائيل , والتعليم في مدارس الشيفا سكول تعليم ممتاز ينأي بالطالب عن مخالطة أبناء الجاليات الأخري حتي لا يتسرب إلي أفكارهم أو أذهانهم ثقافات غير مرغوبة أو معادية لليهود ودولتهم إسرائيل.
.
بعد التخرج من هذه المدارس يكون الطالب قد تهيأ وزاد نضجه وفهمه وفكره وإيدلوجيته فيلتحق بعد ذلك بأرقي الجامعات الأمريكية الباهظة التكاليف , وفي هذا المجال ينفقون ببذخ كمشروع قومي سيعود عليهم بالخير الوفير , لذا تجد اليهود في أمريكا يشغلون مناصب هامة رئيسية مؤثرة في كافة الوزارات وفي القضاء وفي الكونجرس ومجلس الشيوخ وسأتكلم عن ذلك بشيء من التفصيل عند الكلام عن السياسة في متلازمة العلم والإقتصاد والسياسة.
.
أما الإقتصاد في متلازمة العلم والإقتصاد والسياسة فاليهود يمتلكون ناصية
الإقتصاد في أمريكا , فهم أصحاب رؤوس الأموال في كافة المشاريع الهامة
والإستثمارات الآنية , أي التي تدر عائدها علي مدي قصير , فهم لا يستثمرون مثلا في الأصول الثابتة التي تدر عائدها بعد سنوات طويلة , ومن ثم تجدهم يسيطرون علي قنوات التليفزيون والصحف والمجلات وكافة وسائل الإعلام , وكذلك الإنتاج السينمائي فهم أباطرة هوليود ونجومها ونجماتها بلا منازع , هذه الأنشطة وغيرها تدر عليهم المليارات من الدولارات وتجعل منهم أغني أغنياء العالم الأمر الذي يوظف لخدمة دولتهم الأم إسرائيل.
.
أما السياسة في متلازمة "العلم والإقتصاد والسياسة" , فاليهود في أمريكا يكونون لوبي يهودي ضخم مسلح بالعلم والمال وشغل الوظائف الهامة المؤثرة في الدولة مما يمنحهم القوة والهيمنة في إنجاح العديد من
مرشحي اليهود في الكونجرس ومجلس الشيوخ عن كافة الولايات أما في الإنتخابات الرئاسية الأمريكية فاللوبي اليهودي يختار المرشح للرئاسة في نطاق صفقة مصالح متبادلة , فهم يصرفون ببذخ علي حملته الإنتخابية ويسخرون وسائل الإعلام التي يمتلكونها للدعاية له وتأييده ودعمه مقابل تحقيق كل مطالب إسرائيل الفتاة المدللة , من أجل ذلك تجدهم يوم التصويت يذهبون جميعا كتلا متراصة للإدلاء بأصواتهم للمرشح المختار من
قبل قيادات اليهود هناك ولا يجرؤ يهودي واحد علي مخالفة ذلك.
.
أكتفي بهذا القدر عن اليهود في بلاد العم سام وأعتقد أن الفكرة قد وصلت ولا داع للإطالة في هذا الشأن أكثر من ذلك.
.
أما العرب في أمريكا فهم لا يعرفون أو يدركون المعني الحقيقي المؤثر لكلمة "لوبي" ومن ثم فهم متنافرون مشتتون فاقدي البصلة غير متجانسين غير متحدين غير متفقين علي شيء بل تجد بعضهم أعداء بعض , يعلمون أولادهم في مدارس الحكومة المجانية - وهي مدارس في الحقيقة ليست سيئة تعليميا - ولكنها تضم خليطا غير متجانس من الأولاد وكثيرا ما تحدث مشاجرات وإعتداءات بين التلاميذ وبعضهم البعض , والكثير من العرب هناك يسمون أبنائهم بالأسماء الأمريكية أو الغربية من باب المحاكاة والتقليد لما جرت عليه الأسماء في الثقافة الغربية.
.
أما عن الإقتصاد في مفهوم العرب هناك , فجله إمتلاك سلسلة محلات سوبر ماركت أو مكاتب "كار سرفيس" "Car service" وهي مكاتب تمتلك بعض السيارات المرخصة لتحميل الركاب من وإلي منازلهم , أو إمتلاك بعض ما يعرف بميدالية "Medal" التاكسي الأصفر وهي عبارة عن رخصة تسيير تاكسي بالعداد يطلق عليه "التاكسي الأصفر" "Yellow cap" , وهذه الميدالية باهظة الثمن تصل قيمتها إلي نصف مليون دولار , ولا أنفي بعض الوظائف المحترمة التي يشغلها بعض العرب كوظيفة مهندس او محاسب أو محامي وثؤلاء هم الفئة التي درست في أمريكا وحصلت علي الشهادات الجامعية المؤهلة لتلك الوظائف , أو أولئك المهاجرين العرب الجدد الذي عادلوا شهاداتهم الجامعية من بلدانهم وحصلوا علي مؤهلات معادلة أهلتهم لشغل هذه الوظائف بعد الإختبارات التي تعقد للمتقدمين في مسابقة عامة.
.
هذا عن العرب الذين ولدوا في الولايات المتحدة الأمريكية أو المهاجرين منذ سنوات وحصلوا علي الجنسية الأمريكية وأستقرت أوضاعهم في وظائف محترمة , أو الذين عادلوا شهاداتهم بدراسة بعض المقررات التكميلية , هؤلاء يستطيعون الحصول علي وظائف محترمة أيضا إذا أرادوا ولاحت لهم الفرصة وتبسم لهم الحظ , أما الغالبية العظمي من العرب الذين يحملون الجنسية الأمريكية ولا يجيدون عملا أو الذين لديهم إقامات شرعية دائمة "Green Card" أو أولئك الذين يقيمون بصفة غير شرعية ولا يحملون أي أوراق , هذه الفئات الأخيرة هي التي تعمل في المطاعم أو محطات البنزين أو سائقي كار سرفيس او ليموزين أو تاكسي أصفر بالعداد وهي أعمال تدر بعض الدخل الذي يحولون جزءا منه إلي ذويهم في أوطانهم ولكنه دخل لا يرقي لمستوي الغني المادي أو الوفورات المادية الكبيرة , وبالمناسبة
لاتجد أحدا من اليهود يقوم بهذه الأشغال إلا إذا كان يمتلك ورشة مثلا لتصليح السيارات أو سلسلة محطات بنزين , والغريب أن شباب العرب يعملون في هذه الأنشطة اليهودية وهم سعداء راضون طالما يحصلون علي الدخل الذي يبتغون ’ ولهم الحق في ذلك.
.
هذا هو حال الشأن الإقتصادي والنقدي للعرب في الولايات الأمريكية بصفة عامة.
.
أما عن الشأن السياسي فيما إصطلحنا عليه بـ "متلازمة العلم والإقتصاد والسياسة" فحدث ولا حرج , فالعرب عازفون عن الإشتغال بالسياسة وكارهون الإنضمام إلي الأحزاب السياسية أو الترشيخ لمناصب مثل منصب حاكم الولاية أو عمدة المدينة أو الترشيخ كنواب في الكونجرس أو مجلس الشيوخ , وإذا وجدت عربيا نائبا في البرلمان هناك فأعلم أنه ليس عربيا وإنما هو من أصل عربي فهناك فرق بين الأثنين.
.
حتي الترشيح لعضوية مجلس الأباء في المدارس فهم يعطونها ظهورهم ولا يأبهون أو يهتمون بها علي الإطلاق , كذلك هم لا يذهبون للتصويت في كافة الإنتخابات إلا القليل منهم , ذلك أنهم يخشون فقد أو خسارة أجر يوم أو نصف يوم من رواتبهم الأسبوعية في الجهة التي يعملون بها.
وأخيرا أقول أن اليهود أذكياء عرفوا كيف يتعلمون وكيف يتاجرون وكيف يمارسون السياسة بإعتبارها فن الممكن ويقيمون دولة ولو علي أرض مغتصبة , أما العرب فهم الأغبياء بإمتياز فقدوا الأرض وسلبوا الحرية حتي الدول العربية الغنية لم تفعل شيئا مؤثرا في السياسية العالمية وأكتفت ببناء الدور والقصور وحياة الترف والنعيم في ظل حماية أمريكية وسلاح أمريكي تشتريه بمليارات الدولارات من عوائد النفط , بالإضافة إلي قواعد أمريكية جاسمة علي أراضي بعض دولها مثل العراق وقطر بزعم حمايتها من بعضها البعض كما حدث إبان غزو العراق للكويت وقيام حرب الخليج الثانية، والتي تسمى كذلك عملية عاصفة الصحراء أو حرب تحرير الكويت في 17 يناير إلى 28 فبراير 1991 .
.
22 دولة عربية بينهم حدود وجوازات سفر وتأشيرات دخول وموافقات ولا موافقات بينما أمريكا 50 ولاية ومساحتها 3.79 مليون ميل مربع أو 9.83 مليون كم2 ، وتحتل المرتبة الثالثة من حيث عدد السكان (307 مليون نسمة) , لا حدود بين الولايات وحرية تنقل بينها علي أوسع نطاق , الإتحاد الأوربي 28 دولة أخرهم كانت كرواتيا , أعراق وأجناس ولغات مختلفة ويبلغ سكان الاتحاد الأوروبي 501,260,000 ويمتد الاتحاد الأوروبي على مساحة 3975000 كم² , لا حدود بين دول الإتحاد ولا تأشيرات , تنقلات الأفراد والبضائع في حرية ليس لها نظير وعملة موحدة هي "اليرو" وهوية سياسية موحدة.
.
علي ضوء ما تقدم أستطيع القول أن العيب ليس في سياسات الغرب وإسرائيل تجاهنا ولكن العيب فينا وفي سياساتنا تجاه أنفسنا.